ولم يكن الرئيس هو وحده الذي استاء من تصريحي عن حق الإخوان في العمل العام، ولكن شاركه في ذلك في حينه، مُعظم القيادات القبطية وأحد قيادات حزب التجمع اليساري، والذي أصبح رئيساً له بعد ذلك.
وفي عام 1994، حينما دعوت إلى مؤتمر للحوار حول هموم ومُشكلات الأقباط في مصر وبقية "الأقليات" في الوطن العربي، هاجمني الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل. وكان هجومه في صحيفة الأهرام، بداية لهجوم دام حوالي ثلاث سنوات، وشارك فيه ما يزيد على خمسمائة كاتب وناشط، إما بدعوى أنه لا توجد عندنا "اقليات" من أصله، أو حتى لو وجدت فإنه ليس لديها مشكلات تُذكر، وأن فتح هذا الموضوع يُهدد "الوحدة الوطنية المصرية"، أو "الوحدة القومية العربية".
ودارت الأيام وصحّ ما حذرنا منه في مصر، والسودان، ولبنان، والعراق. حتى أن الأستاذ هيكل نفسه في إحدى حلقاته التليفزيونية المُبكرة على قناة الجزيرة، أكد بملء فيه أن "مسألة الأقليات"، هي من أكبر التحديات التي تواجه العرب في القرن الحادي والعشرين.
وفي ذكرى إعادة افتتاح مركز ابن خلدون للدراسات الديمقراطية عام 2004، أعلنت نيتي على ترشيح نفسي لرئاسة الجمهورية مُنافساً للرئيس حسني مُبارك. رغم أن ذلك لم يكن مُمكناً في ظل الدستور القائم، وقتئذ، والذي كان يُفرض على المواطنين نظام استثنائي، يقولون بموجبه "نعم" أو "لا"، على شخص مُرشح واحد، يُسميه مجلس الشعب.
وكانت النية المُعلنة هي إقامة انتخابات "موازية"، يختار فيها المواطنون من عدة مُنافسين. لقد كُنا نُحاول كسر أحد المُحرمات السياسية.
وراقت الفكرة للصديقة د. نوال السعداوي، الطبيبة والروائية الشهيرة، فاتصلت بي لاستمزاج الرأي في كسر أحد "المُحرمات الذكورية"، وهي قصر العمل السياسي في مُجتمعنا على الرجال. وتحمست للفكرة، وحضرت معها مؤمراً صحفياً، أعلنت فيه نيتها على الترشح.
وسرعان ما انضم لثنائي سعد ونوال، النائب محمد فريد حسنين، وأصبحنا ثلاثياً، فتحت له الفضائيات العربية (الجزيرة، أوربت، العربية) أبوابها، حيث لم تكن هناك أحداث إخبارية أخرى تستحق الاهتمام.
وفي نوفمبر من عام 2005، انضم النائب الدكتور أيمن نور إلى الساحة التنافسية، وكان قد حصل في حينه على موافقة من مجلس الشورى على تأسيس حزب "الغد"، فأصبحنا رُباعياً مُزعجاً للرئيس مُبارك.
وفي كل ليلة كنا نظهر على القنوات الفضائية العربية، ثم العالمية، كُنا نتحدى الرئيس مُبارك، أن يجرؤ على مُنازلتنا في انتخابات تنافسية حُرة. وهو ما أحرجه، ودفعه إلى تعديلات دستورية، بدت في مظهرها، كما لو كانت تسمح بالتنافسية، ولكنها في جوهرها ـ من خلال المواد 76و77و88 ـ تُقصر المُنافسة الحقيقية على الرئيس ونجله، حتى لو سمح ببعض "الكومبارس"، هنا وهناك. ولكن هناك قانون في علم الاجتماع السياسي عن "النتائج غير المتوقعة للفعل الاجتماعي"، وهو ما ينطبق تماماً على الحالة المصرية.
فرغم ما بدا في حينه كأنه "لعبة" أو "فرقعة إعلامية" ـ من سعد ونوال وفريد ـ لما كان أيمن نور، ولا الحركات الاحتجاجية في السنوات الخمس التالية، ولا كان د. البرادعي، ولا كانت المُراقبة المحلية والخارجية للانتخابات، ولا كانت الحركات المطلبية لأهالي النوبة، وبدو سيناء، وأقباط المهجر، ولا كان حادث مثل مقتل الشاب السكندري خالد سعيد تعذيباً، على يد الأجهزة الأمنية، قد أدى إلى كل تلك الوقفات الاحتجاجية في عموم القُطر المصري.
إن هذه المقدمات والخلفيات، ضرورية لوضع واقعة التوقيع على بيان الحملة الشعبية لترشيح جمال مُبارك للرئاسة عام 2011.
1ـ لقد كنت أنا (وأعوذ بالله من أنا)، في شهر رمضان، أول من حذّر من ظاهرة التوريث، في مقالنا الشهير بعنوان "الجملوكية: مُساهمة الرؤساء العرب لعلم السياسة في القرن الحادي والعشرين" (مجلة المجلة اللندنية).
وكان ذلك في أعقاب رحيل الرئيس السوري حافظ الأسد، في يونيو 2000، وعلى فضائية أوربت، مع الإعلامي الشهير عماد أديب، والتي غطت كل وقائع جنازة حافظ الأسد، على امتداد 12 ساعة، وحيث كنت أتلقى أسئلة المُشاهدين من كل أنحاء العالم، والتي دارت حول مستقبل الحُكم في سورية.
ولما تنبأت بأن الحُكم سيورّث لابنه بشّار، سألني آخرون عما إذا كان ذلك سيكون "استثناء" أم "سابقة"، قد تتكرر في بُلدان عربية أخرى؟ وكانت إجابتي أنها ستكون سابقة في جمهوريات عربية أخرى.
2ـ حينما سُئلت في نفس المُناسبة، أين وكيف، ولماذا، ستتكرر، كانت إجابتي، أن أي بلد عربي، حتى لو كان نظام الحُكم فيه جمهورياً، ويمكث أي رئيس في السُلطة أكثر من عشر سنوات، فإنه وأفراد أسرته يتعوّدون على مُمارسة السُلطة، وما يُصاحبها من "ثروة" و"نفوذ"، فيتمسكون بها بكل "أهدابهم" و"أسنانهم"، ويحرصون على توريثها لذويهم، مثلها في ذلك مثل أي أملاك أو متاع.
3ـ إن عاملاً أو سبباً آخر للتمسك بالسُلطة وتوريثها لذويهم، غير المُتعة بالسُلطة والثروة، هو "الخوف" من "الدخلاء" أو "الغرباء" من غير الأقربين، قد يكشفون مباذلهم، ومهازلهم، وآثامهم، بل وقد يُقدمونهم للمُحاكمة أو يُصادرون ما نهبوه من ثروات.
4ـ حينما كتبنا عن ذلك، قبل عشرين عاماً، كُنا ندرك أننا نقتحم حقل ألغام، لا يقل خطورة عن حقل ألغام "الأقليات". ولم يكن أمثال هيكل، وحسن نافعة، ورفعت السعيد، ولا جورج اسحق، ولا جمال حشمت، ولا رشدي بيومي، وهم موضع احترام وتقدير، ولا غيرهم ممن عبّروا عن استيائهم أو اختلافهم معي، قد اقتربوا، من حقل الألغام ذاك، ناهيك عن اقتحامه.
أما الحديث عن "صفقة" مع النظام، فهو حديث ساذج من الشرفاء من ذوي النوايا الطيبة، في أحسن الأحوال وفي أسوأ الأحوال فهو حديث "عُملاء"، ينضحون من إناء هم خبروه أنفسهم، ويعتقدون أنني مثلهم أو دخيل يُنافسهم. فلو كان ذلك ضمن أجندتي، لما اقتحمت ما اقتحمت من حقول ألغام، ولا دفعت الثمن، سجوناً في الداخل في عُمر الستين، ومنافي في الخارج بعد السبعين.
5ـ وحينما ركبت الطائرة في طريقي للولايات المتحدة، كان في ذهني نسيان معارك شهر كامل كنت أحلم أن يكون شهر صيام، وراحة، وتواصل مع الأقارب والأحباب، وهو ما لم يحدث.
فتمنيت أن تكون رحلة الأربع عشرة ساعة، فاصلاً مكانياً ونفسياً بين ما تركته ورائي في أرض الوطن، وما سأستأنفه من عمل أكاديمي في اليوم التالي بجامعة "دُرو"، التي سأكون فيها أستاذاً زائراً للدراسات الإسلامية.
ولكن بمجرد استقرار الركّاب، وإقلاع طائرة "مصر للطيران" اقتربت مني مُضيفة حسناء، قدمت نفسها، كبهيرة الكيلاني، فقلت، مُداعباً، ياه.. لقد كان لنا زميلة عزيزة في سنوات الدراسة، في كُلية آداب القاهرة بنفس الاسم" ففاجأتني بمعرفة أنها لا بد أن تكون الأستاذة "بهيرة مُختار حسين".
وبادرت بسؤالها عن عُمرها، والذي كان في بداية العشرينيات، واستغربت أن تتعرف بهذه السُرعة والعفوية عمن قصدتها.. وقالت ربما كان إعجاب والديها بالصحفية المُخضرمة في الأهرام... بعد دقائق عادت، ومعها عدد من صحيفة الأهرام، وعلى صفحته الأولى عنوان يقرأ:
"عاصفة من الهجوم على سعد الدين إبراهيم بعد تأييده ائتلاف دعم جمال مُبارك" ثم ناولتني بعد دقائق، عدد "المصري اليوم" وفي صفحته الأولى أيضاً عنوان قريب جداً، وهو "المُعارضة تقول سعد الدين إبراهيم فقد عقله أو عقد صفقة مع النظام"، وتركتني بهيرة أقرأ ما كتبته الصحيفتان. ثم استأذنت أن تسأل سؤالاً شخصياً فاعتقدت لأول وهلة أنها ستسأل عن مسألة جمال مُبارك.
ورغم التفسير الذي قدمته، إلا أن بهيرة قالت إنها في هذا الموضوع أقرب لوجهة نظر د. حسن نافعة، والأستاذ جورج اسحق. وسألت، ألم تكن أنت أول من وقف ضد التوريث؟ أجبت نعم، وما زلت كذلك.
قالت بهيرة بلغة حقوقية، كما لو كانت بهي الدين حسن أو المرحوم هشام مُبارك، "هل يعني ذلك أنك "تتمثل فولتير، فيلسوف الثورة الفرنسية، الذي كان مُستعداً للتضحية بحياته في سبيل إتاحة الفرصة لخصومه بحُريتهم في التعبير والاختيار؟" أجبت نعم، وسألتها بدوري، "ومن غير فولتير تعرفين؟"
فإذا بالآنسة بهيرة دائرة معارف واهتمامات مُتحركة. ودخلنا طوال الرحلة في أحاديث مُنقطعة عن شخصيات مصرية وعربية وعالمية، من سياسيين وأدباء وفنانين ورجال أعمال. فتحية لبهيرة المُبهرة، وتحية لمصر للطيران، التي وضعتها على هذه الرحلة الطويلة.